اقتضت حكمة الله أن يجعل وراء هذه الدار دارا أخرى يرى فيها المرء جزاء أعماله إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وجاء القرآن الكريم لإقناع الناس بأن تلك الدار هي حق(1).
والإيمان باليوم الآخر هو التصديق الجازم بأن هذا اليوم آت لا محالة، وأن الدنيا ليست دار قرار؛ بل هي دار عمل وانتظار، فالحياة خاتمتها الفناء، ويدخل في الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالساعة وأماراتها، والموت وفتنة القبر والنفخ في الصور، وخروج الخلائق من القبور والقيامة وأهوالها، والحشر ونشر الصحف، ووضع الميزان، والصراط، والحوض والشفاعة، والجنة ونعيمها والنار وعذابها(2).
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كُنْ فِي الدُّنْيَا كَاَنَّكَ غَرِيبٌ اَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ »(3)، وقال أحدهم:
نطوف ما نطوف ثم يأوي ذوو الأموال منا والعديم
الى حفر أسفالهن جـوف وأعلاهن صفاح مقيــم(4).
فاللبيب من الناس من درك حقيقة الأمر وعمل بمقتضاها، عمل للدار الباقية، دار الخلود التي يعتبر الاستعداد لها وظيفة العقلاء في هذه الدنيا الفانية.
قال الإمام الشافعي رضي الله عنه:
إن لله عبادا فطنـــا تركوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علموا أنهــا ليست لحي وطنا
جعلـوها لجة واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنـا(5).
علينا أن نجعل اليوم الآخر نصب أعيننا، وأن نبادر بالصالحات من الأعمال، ونرجو رحمة الله، والأعمال التي تنجي من العذاب كثيرة، منها ما جاء على لسان عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه حيث قال: « خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ونحن في مسجد المدينة. فقال: إني رأيت البارحة عجبا. رأيت رجلا من أمتي جاءه ملك الموت ليقبض روحه. فجاءه بره بوالديه فرد عنه.
ورأيت رجلا من أمتي قد بسط عليه عذاب القبر فجاءه وضوءه فاستنقذه من ذلك.
ورأيت رجلا من أمتي قد احتوشته الشياطين. فجاءه ذكر الله فخلصه من بينهم.
ورأيت رجلا من أمتي قد احتوشته ملائكة العذاب. فجاءته صلاته فاستنقذته من أيديهم.
ورأيت رجلا من أمتي يلهث عطشا. كلما ورد حوضا منع منه. فجاءه صيامه فسقاه وأرواه.
ورأيت رجلا من أمتي والنبيون قعود حلقا كلما دنا لحلقة طردوه فجاءه اغتساله من الجنابة فأخذ بيده وأقعده بجنبي.
ورأيت رجلا من أمتي بين يديه ظلمة ومن خلفه ظلمة وعن يمينه ظلمة وعن شماله ظلمة ومن فوقه ظلمة ومن تحته ظلمة فهو متحير فيها فجاءته حجته وعمرته فاستخرجاه من الظلمة وأدخلاه في النور.
ورأيت رجلا من أمتي يكلم المؤمنين فلا يكلمونه فجاءته صلة الرحم. فقالت: يا معشر المؤمنين كلموه فكلموه.
ورأيت رجلا من أمتي يتقي شرر النار ووهجها بيده عن وجهه فجاءته صدقته فصارت سترا على وجهه. وظلا على رأسه.
ورأيت رجلا من أمتي قد أخذته الزبانية من كل مكان فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر فاستنقذاه من أيديهم وأدخلاه مع ملائكة الرحمة.
ورأيت رجلا من أمتي جاثيا على ركبتيه بينه وبين الله حجاب، فجاءه حسن خلقه فأخذ بيده فأدخله على الله.
ورأيت رجلا من أمتي قد هوت صحيفته من قبل شماله فجاء خوفه من الله تعالى فأخذ صحيفته في يمينه.
ورأيت رجلا من أمتي قد خف ميزانه فجاءته أقراطه فثقلوا ميزانه.
ورأيت رجلا من أمتي قائما على شفير جهنم، فجاءه وجله من الله فاستنقذه من ذلك ومضى.
ورأيت رجلا من أمتي هوى في النار فجاءته دموعه التي بكى من خشية الله في الدنيا، فاستخرجته من النار.
ورأيت رجلا من أمتي قائما على الصراط يرعد كما ترعد السعفة فجاءه حسن ظنه بالله فسكن رعده ومضى.
ورأيت رجلا من أمتي على الصراط يزحف أحيانا ويحبو أحيانا فجاءته صلاته علي فأخذت بيده وأقامته ومضى على الصراط.
ورأيت رجلا من أمتي انتهى إلى أبواب الجنة فغلقت الأبواب دونه فجاءته شهادة لا إله إلا الله، ففتحت له أبواب وأدخلته الجنة »(6)، اللهم صل وسلم على الحبيب المصطفى الذي بعثه الله رحمة للعالمين، القائل: « مَنِ اسْتَطَاعَ َمِنْكُمْ اَنْ يَسْتَتِرَ مِنَ النَّارِ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَلْيَفْعَل »(7).
يعجب الشيخ اليافعي رحمه الله، ممن يدري أن هناك جنة ونار، ولا يعمل للفوز بالجنة، ولا للنجاة من النار فيقول:
فيا عجبا ندري بنــــار وجنة وليس لذي نشتاق أو تلك نحـذر
إذا لم يكن خوف وشـوق ولا حيا فماذا بقى فينا من الخير يذكـر
ولسنا لحــر صابـرين ولا بلى فكيف على النيران يا قوم نصبر
وفوت جنان الخلد أعظـم حسرة على تلك فليتحسـر المتحسـر
نبيع خطيرا بالحقيــر عمايـة وليس لنا عقل وقلب منــور
فطوبى لمن يؤتى القناعة والتقـى وأوقاته في طاعة الله يعمــر
اللهم اجعلنا من المتقين الوارثين للجنة ولا تحرمنا من رفدك ورحمتك يا عظيم المنة(
.
قالت رابعة العدوية :
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس(9).
« رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ »(10)، اللهم اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم.
يقول الحسن البصري رضي الله عنه: لا تجعل لنفسك ثمنا غير الجنة، فإن نفس المؤمن غالية، وبعضهم يبيعها برخص(11)، ويقول الحكماء، اجعل للشيء ثمنا معقولا، فإن الدنيا وما فيها لا تساوي نفس المؤمن(12)، قال تعالى: ﴿ وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُون ﴾(العنكبوت/64)، فالدنيا زائلة ومنقضية لا محالة، هي دار لهو ولعب فقط، أما الآخرة فهي دار القرار والاستمرار، واللبيب هو من يؤثر الباقي على الفاني ويعمل من أجله(13).
وأهل الجنة كما جاء في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة وأهل النار خمسة، قال عليه الصلاة والسلام: «... وَأهْلُ الْجَنَّةِ ثَلاَثَةٌ ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ، قَالَ: وَأهْلُ النَّارِ خَمْسَةٌ: الضَّعِيفُ الَّذِي لاَ زَبْرَ لَهُ الَّذِينَ هُمْ فِيكُمْ تَبَعًا لاَ يَبْتَغُونَ أهْلاً وَلاَ مَالاً، وَالْخَائِنُ الَّذِي لاَ يَخْفَى لَهُ طَمَعٌ وَاِنْ دَقَّ إلاَّ خَانَهُ، وَرَجُلٌ لاَ يُصْبِحُ وَلاَ يُمْسِي إلاَّ وَهُوَ يُخَادِعُكَ عَنْ اَهْلِكَ وَمَالِكَ، وَذَكَرَ الْبُخْلَ أَوِ الْكَذِبَ وَالشِّنْظِيرُ الْفَحَّاشُ »(14).
ــــــــــــ
(1)- روح الدين الإسلامي، ص121.
(2)- ينظر 200 سؤال وجواب في العقيدة الإسلامية، ص53.
(3)- مختصر صحيح البخاري، ص487.
(4)- لاتحزن، ص357.
(5)- شرح ديوان الإمام الشافعي ، ص93.
(6)-.علامات القيامة الكبرى من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزول عيسى عليه السلام، ص170.
(7)- مختصر صحيح مسلم، ص141.
(
- الإستعداد للموت وسؤال القبر، ص78.
(9)- الإستعداد للموت وسؤال القبر، ص78.
(10)- مختصر صحيح مسلم، ص395.
(11)- لا تحزن، ص210.
(12)- لا تحزن، ص210.
(13)- ينظر تفسير ابن كثير، الجزء الخامس ص338
(14)- مختصر صحيح مسلم، ص427، والحديث طويل أخذت منه ما يناسب فقط.
المصادر والمراجع
- عفيف عبد الفتاح طبارة، روح الدين الإسلامي، دار العلم للملايين بيروت - لبنان، الطبعة السادسة عشرة تشرين الثاني1977.
- الشيخ حافظ بن أحمد حكمي، 200 سؤال وجواب في العقيدة الإسلامية، نشر وتوزيع مكتبة رحاب الجزائر.
- الإمام زين الدين أحمد بن عبد الطيف الزبيدي، مختصر صحيح البخاري المسمى التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، دار الإمام مالك الجزائر، الطبعة الأولى 1428هـ -2007م.
- د. عائض القرني، لاتحزن، مكتبة العبيكان.
– الإمام الجليل الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي، تفسير ابن كثير الجزء الخامس، دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة السادسة1404هـ - 1984م.
- د. عائض القرني، لاتحزن، مكتبة العبيكان.
– الحافظ عبد العظيم بن عبد القوي المنذري، مختصر صحيح مسلم دار الإمام مالك الجزائر، الطبعة الأولى1428هـ -2007م.
- زين الدين بن علي المعبري من علماء القرن العاشر الهجري، الإستعداد للموت وسؤال القبر، دار الشهاب باتنة الجزائر بالتعاون مع مكتبة التراث الإسلامي القاهرة.
- د.رحاب عكاوي، شرح ديوان الإمام الشافعي أبي عبد الله محمد بن ادريس، دار الفكر العربي بيروت.
- عبد الله حجاج، علامات القيامة الكبرى من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزول عيسى عليه السلام، دار الشهاب للطباعة والنشر باتنة الجزائر بالتعاون مع مكتبة التراث الإسلامي القاهرة.